اصنعوا الطعام ولا تصنعوا الحرب" يردّد الرائد في عالم الطهي والناشط الاجتماعي كمال مزوّق شعار مشروع الطهي الخاص به قبل التوقيع على المحادثة عبر الفيديو الخاصة بنا.

وُلد مزوّق في كنف عائلة من المزارعين أثناء الحرب الأهليّة اللبنانية، وعاش في خضمّ تناقض ما بين الطبيعة منبع الغذاء للأطعمة من جهة والتهديد المستمرّ الذي تشكّله الحرب من جهةٍ أخرى. وكان تحضير الطعام المجال الذي برع فيه، والذي اختاره ليكون أداةً تفيد المصلحة العامة.

مرّ الآن ما يناهز عقدَين على تأسيس كمال لأوّل سوق للمزارعين في لبنان تحت اسم "سوق الطيب" ويهدف إلى دعم الزراعة المحليّة المستدامة، وصغار المزارعين والمنتجين، ليؤدّي دوراً فعّالاً في إصلاح مجتمع متداعٍ ومتصدّع عبر واحدة من الحاجات الأساسيّة في الحياة ألا وهي الطعام.

وطرح السؤال التالي:"نتناول الطعام كلّ يوم، فلمَ لا نطوّره ونتّفق على الطرق الأفضل لاستقدامه؟"

يستكنّ هذا السوق في قلب مدينة بيروت ويجسّد تراث المطبخ اللبناني المفعم بالألوان والذي يمتدّ عبر الساحل اللبناني وصولاً إلى جبال لبنان الشاهقة. وبالإضافة إلى شراء الفواكه والخضروات الموسميّة والمونة أو المأكولات المصنوعة يدوياً، سيتيح السوق لزوّار إعادة اكتشاف المنتجات الغنيّة التي يوفّرها لبنان والتي ابتدعتها أيادي النساء والرجال الذين يصفهم كمال بـ"الفاعلين الذين يحافظون على استمرار الحياة". ويقدّم السوق منتجات عدة من صنع مزارعين ومنتجين لبنانيين، ونذكر منها زيوت ريتا الأساسية العضوية، وصلصات حيدر الحارّة، وصاج ريما، وعسل موريس، ومنتجات جورجيت الخالية من الغلوتين، وأواني زياد الزجاجية المُعاد تدويرها، وأطباق سونيا الأرمنية الشهية، وغيرها الكثير. ويروي كلّ منتج منها قصّة مزارع أو منتج محلي ويعكس المنطقة التي يأتي منها، سواء كانت الدكوانة أو النبطية أو عاليه أو الجديدة أو الصفرا أو داريا أو برج حمود.

Kamal Mouzawak

كمال مزوّق

Rima Massoud and Sonia Tikidjian from Souk El Tayeb's farmers' market

ريما مسعود وصونيا تيكيدجيان من سوق الطيّب

منذ أنّ تمّ إطلاق سوق الطيب، توسّع ليغدو مجموعة من المطاعم وغرف الاستقبال والمؤسّسات الاجتماعية التي يجمعها هدف واحد ألا وهو الحفاظ على تقاليد لبنان وتراثه من خلال توحيد الطهاة والمزارعين والحرفيين.

ونذكر منها مطعم "طاولة" الذي يقدّم مأكولات من تحضير المزارعين، وتمّ افتتاحه عام 2009 في أحد أحياء بيروت الشهيرة، مار مخايل. يوفّر قائمة طعام أسبوعية تحتضن مجموعة من الأطباق الإقليمية المميّزة من إعداد نساء أكثرهنّ لاجئات يمثلنَ مسقط رأسهنَّ، ونذكر منها مثل الكفتة النية العمّيقيّة، والبامية بالزيت الطرابلسيّة وحراق اصبعه السورية وفتة مكدوس البيروتية.

غدت النساء وجه مطعم "طاولة" الذي يستقطب مجموعة كبيرة من الناس الذين يتوقون إلى التلذّذ بالمأكولات المنزلية وفقاً لمفهوم من المزرعة إلى الطاولة. ويقول كمال: "إنّهنّ حارسات تراثنا وتقاليدنا، إذ أتحنَ للناس فرصة إعادة اكتشاف منتجات منطقتهم، فيساهمنَ مساهمة جوهرية في تحسين وضع أسرهنَّ ومجتمعنا واقتصادنا. وبالتالي، تُعدّ النساء عنصراً أساسياً في المجتمع على الأصعدة كافّة.

لا يقتصر دور مطعم "طاولة" على تقديم المكوّنات على طبق، لا بل يضمّ فريق عمل استثنائياً ويمتاز بمطبخ مفتوح أخّاذ، فضلاً عن متجر رائع يستعرض منتجات أسواق المزارعين والقطع الحرفية المصنوعة يدوياً، لينعم الضيوف بتجربة طعام بسيطة تلهمهم على تناول الطعام مع بعضهم البعض وتشجّعهم على تبادل الأحاديث مع الجيران، ليكسر بالتالي الحواجز الاجتماعية والسياسية والجغرافية.

في شهر يناير عام 2022، حطّ مطعم "طاولة" رحاله في باريس، فرنسا. في هذا الصدد، قال كمال: "لطالما حلمت بتطبيق نموذج مطعم "طاولة" في كلّ بلد للاحتفاء بالمأكولات المحلّية المنزليّة، لكنّني أدركت أنّ الأمر سيتطلّب جهداً ووقتاً. ففكّرت أنه علينا القيام بما عرفناه وبرعنا به ألا وهو الطاولة اللبنانية.

إنه بالفعل اسم على مسمّى! يقع المطعم الأحدث للمؤسّسة الاجتماعية في الدائرة 11 لمدينة الأضواء باريس، ويحتفي كلّ يوم بمنطقة معيّنة من لبنان مع مجموعة من المنتجات الموسمية والأطباق الأصيلة المطهية على الطريقة المنزلية. فمع كل لقمة من المجدّرة، والشوربة، والكبة والكشك، كل من يطأ عتبة المطعم سيخوض تجربة لبنانية تتخطّى المأكولات الشعبية المعتادة والمقبّلات.

وأضاف كمال: "نقدّم أيضاً وجبة برانش بيروتية أسبوعيّة في عطلات نهاية الأسبوع. وشهدنا على تشوّق الضيوف وحماسهم لتذوّق المأكولات اللبنانية المنزلية."

Tawlet Mar Mikhael

طاولة مار مخايل

Tawlet Paris

طاولة باريس

حازت جهود كمال وفريق عمل سوق الطيب تقديراً عالمياً، كان آخره في حفل توزيع جوائز أفضل 50 مطعماً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أبوظبي، حيث حصل كمال على جائزة "فودكس آيكون" الأولى للإنجازات التي حقّقها والموقع الأصلي لمطعم "طاولة" في مار مخايل الذي احتلّ به المرتبة 28 على قائمة أفضل 50 مطعماً.

وقال كمال: "أنا فخور جداً بأنّ العمل الرائع الذي أنجزه فريق مطعم "طاولة" حاز تقديراً عالمياً. ولا شكّ في أنّه يستحقّ هذا التقدير، ولاسيّما في ظلّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي يشهدها لبنان. ومن المؤثر أيضاً أن نرى صناعة المأكولات والمشروبات تعترف بنمط الاحتفاء ببساطة التقاليد كنموذج قابل للتطبيق، علماً أنّه لا يتناسب مع معاييره المعتادة".

أكثر ما يميّز كمال وفريقه هو تفانيهم الثابت لاستخدام الطعام كوسيلة لخدمة قضية أعظم، وترسّخ هذا الهدف أكثر فأكثر عقب تفجير أغسطس الكارثي الذي دمّر بيروت في عام 2020. فعلى غرار مئات الآلاف من الأشخاص، عانى كمال وفريقه خسارة كبيرة، لكنّهم وجّهوا حزنهم نحو هدف واحد ألا وهو مدّ يد العون للآخرين. وقال كمال: "حين تواجه مشكلة، ماذا تفعل؟ إمّا تفكّر في الخسارة التي تكبّدتها، إمّا تجد حلّاً لها. فركّزنا على إيجاد الحلّ بكلّ بساطة.

من هنا ولدت فكرة "مطبخ الكل"، وهو مطبخ جماعي يوزّع آلاف الوجبات على الأسر التي تعاني غياب الأمن الغذائي، ويتلقّى المساعدة من المنظّمات غير الربحيّة المحليّة. يتمّ التبرّع بوجبات طعام تُحضّر على يد فريق عمل المطبخ وبدعم من طهاة مطعم "طاولة" والمتطوّعين والموظّفين (وهي مبادرة توفّر فرص عمل مؤقتة للأشخاص الذين ينتمون إلى المجتمعات الأكثر فقراً).

وفي هذا الإطار، يقول كمال: لو كنّا بنّائين، لساعدنا الناس على إعادة بناء منازلهم، لكنّنا طهاة، فبدأنا بتحضير الطعام لمن هم بأمسّ الحاجة إليه. "لا حاجة للطرق المعقّدة لتحويل العالم إلى مكان أفضل."

المطبخ المشترك في سوق الطيّب
المطبخ المشترك في سوق الطيّب

أضفت مبادرات الخير لمسة جميلة على لبنان، ووصل تأثيرها الآن إلى فرنسا. هل يمكن أن تكون الإمارات العربية المتّحدة المحطّة التالية لكمال وعائلة سوق الطيب؟

وأضاف: "لطالما حازت مطاعمنا المؤقتة على استحسان سكّان الإمارات العربية المتحدة. وأنا ممتنّ لذلك. وأحلم بافتتاح مشروع في الإمارات العربية المتّحدة مثل سوق للمزارعين يستهدف المنتجين المحليين أو مشروع يختصّ بمعالجة الطعام والطهي."

يُعرف صاحب المطعم والرائد في مجال الطهي والناشط والداعي إلى التغيير كمال مزوّق بدفاعه عن الفئة المهمّشة وجهوده في السير على خطى الساعين إلى تطوير مجال الطهي في لبنان، فيؤكّد على أنّ فوائد الطعام لا تقتصر على تغذية الجسد.


Tabbouleh.jpg

يعشق كمال التبولة ويعتبرها طبقه المفضّل، فهي على حدّ قول صديقه الصحفي، مزيج من مكوّنات متعدّدة لا يكتمل أي منها من دون الآخر، تماماً مثل لبنان.