منحت آلهة جبل أوليمبوس القدامى الجبنة للبشر الفانين كهدية لهم، أو على الأقل هكذا تقول الأسطورة. وتقول أيضاً إنّ الماعز المقدّسة أمالثيا أطعمت الإله زيوس بحدّ ذاته، وقد غمر لاحقاً السماء بالحليب لإطعام ابنه هرقل، ومن هنا ظهرت مجرة درب التبانة التي نعرفها اليوم. وكتب الشاعر الإغريقي هوميروس في قصيدته الملحمية "الأوديسة" التي خطّها في القرن الثامن قبل الميلاد عن هذه الآلهة العظيمة التي نسجت الأساطير اليونانية، إلى جانب الوحوش الأسطورية مثل الصقلوب، وقد أظهرها وكأنّها تستهلك جبنة الفيتا والكاسيري بتعطّشٍ كبير. بحلول ذلك الوقت، يشير عددٌ من السجلات المكتوبة الأخرى إلى أنّ البشر الفانين قد أتقنوا منذ فترة طويلة الفن المقدّس لصناعة الجبنة.

يمكن اعتبار عائلة روساس في ثيساليا على أنها وريثة هذا التقليد والوصية عليها، إذ يصنع أفرادها جبنة الفيتا (والكاسيري) وفقاً للطرق التقليدية التي توارثتها الأجيال على مرّ قرون حافلة بالخبرة والإتقان.

The Roussas family age their feta in beechwood barrels

عائلة روساس تعتّق جبنة الفيتا في براميل من خشب الزان

Sheep farmer Leonidas Kitsos

مربّي الأغنام ليونيداس كيتسوس

في هذا السياق، يقول ألكساندروس بوتوس، الرئيس التنفيذي للشركة التي يديرها حالياً بالتعاون مع ثلاثة من أقربائه: "نحن نحاول الحفاظ على الحدّ الأقصى من التقنيات القديمة في عمليات إنتاجنا. ونقلّد الطرق القديمة لكن في مصنع ألبان حديث مجهّز بآلات جديدة ويستوفي أعلى معايير النظافة والجودة". صحيحٌ أنّ الأمر قد يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، غير أنّنا نعتمد الطرق القديمة نفسها التي تتّبعها قبيلة الساركتساني المؤلّفة من عائلات رعاة هاجرت في دورات موسمية ما بين جبال المنطقة ووديانها.

When feta cheese is left alone in contact with beechwood, it absorbs the wood’s flavour giving the product its desired sharp taste

عندما تُترك جبنة الفيتا بمفردها وتلامس خشب الزان، تمتص نكهة الخشب التي تمنحها المذاق الحاد المطلوب

John and George Tsimpos handcraft each barrel

جون وجورج تسيمبوس يصنعان كلّ برميل يدوياً

ويضيف ألكسندروس قائلاً: "إنهم شعب فخور جداً يشكّلون مجتمعاً صغيراً ويعيشون بطريقة لا تضرّ البيئة. وكانوا يرعون الأغنام وبعض الماعز، ولم يبنوا منازل قط، إنّما شيّدوا خياماً من القشّ والخشب فقط".

كانت والدته وإخوتها أعضاء في تلك القبيلة، ويتحدرون من سلسلة طويلة من المزارعين البدو الذين يصنعون جبنة الفيتا يدوياً من حليب قطعانهم ويبرّدونها في الكهوف المرتفعة أو البحيرات. أسسوا مصنع الألبان الخاص بهم في العام 1952 واحتفلوا مؤخراً بالذكرى السبعين لتأسيسه، فاستثمر أبناؤهم مؤخراَ ملايين اليورو لإجراء أعمال تحسّن المصنع بما يشمل منشأة جديدة لمعالجة النفايات ومنشأة معالجة أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة تعمل بالخلايا الكهروضوئية.

The Sarakatsani were traditionally shepherds

قبيلة الساركاتساني كانت مؤلفة من رعاة

Alexandros Botos, CEO of Roussas Dairy

ألكسندروس بوتوس، الرئيس التنفيذي لشركة روساس للألبان

ينتج المصنع الآن أكثر من 15000 طن من الجبنة سنوياً، ويصدّر ما يصل إلى 95% من إنتاجه إلى الولايات المتّحدة الأميركية وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط، ويُباع عددٌ من منتجات روساس (بما في ذلك الأصناف العادية المعبأة في أكياس مفرّغة من الهواء والأصناف المعتّقة في البراميل فضلاً عن الأصناف العضوية من الفيتا) في مختلف فروع سبينس.

يقول ألكسندروس: "قد يكون صنع جبنة الفيتا عملاً بسيطاً جداً حين تُنتج بكميات صغيرة للاستهلاك المنزلي، فما عليكم سوى غلي الحليب وتحويله إلى جبنة بإضافة المنفحة إليه. ولكن حين تعملون على نطاق واسع، تصبح العملية أكثر صعوبةً ودقة، فينبغي إيلاء اهتمامٍ كبير للجبنة مع الحرص على توفير الظروف نفسها التي صُنعت فيها الجبنة في الماضي، إذ كانت تُصنع في كهوف تكون درجات الحرارة فيها منخفضة ونسبة الرطوبة عالية نسبياً".

Cheese hanging out to dry

جبنة معلّقة لتجفّ

Our barrel-aged feta is made to a traditional recipe

جبنة الفيتا المعتّقة في البرميل التي نصنعها وفقاً لوصفة تقليدية

تبدأ هذه العملية الآن بتصفية الحليب وتبريده وبسترته قبل إضافة المنفحة والمستنبتات إليه. ونظراً لحجم عمليات روساس الهائل، تُحرّك كميات هائلة من الحليب بمخافق ضخمة مصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ تشبه توربينات الرياح، ثم تقطّع الخثارة إلى مكعّبات دقيقة بواسطة شفرات آلية عالية الدقة. يوضع بعد ذلك حوالي 35% من المزيج جانباً في قوالب مثلثة لتصفيتها، ثم تُترك لترتاح قبل أن تُفرك بملح البحر اليوناني عند جفافها لمساعدتها على تطوير الأنواع المناسبة من البكتيريا، قبل أن تدخل البراميل لتعتيقها.

تُعتبر جبنة روساس العادية رائعة، إنّما تبتكر العلامة جبنة تضاهي روعة الأجبان التقليدية ألا وهي الصنف المعتّق في براميل من خشب الزان والمصنوع وفقاً لعادات رعاة قبيلة ساراكاتساني.

A Sarakatsani tribe member

أحد أفراد قبيلة ساراكاتساني

Dense forest surrounds the Tsimpos family home

الغابة الكثيفة المحيطة بمنزل عائلة تسيمبوس

يقول ألكسندروس: "في الماضي، استخدمت القبيلة المواد الطبيعية فقط، إذ لم يمتلكوا حينها مخزن تبريد، فعمدوا إلى حفظ الأجبان في براميل من صنع أشخاص يعيشون في الجبال، ويقطعون الخشب من الغابة ثم يتركونه لمدة عامين حتى يجفّ قبل صنع البراميل منه. بالتالي، نحن نحاول الحفاظ على هذا التقليد ودعم العائلات المتبقية التي تعمل بهذه الطريقة".

لا يقلّ البرميل أهمية عن الجبنة بحدّ ذاتها، وقلّة هم مَن يتعاونون الآن لإنشاء البراميل يدوياً في اليونان والمساهمة في الحفاظ على هذه الحِرفة. تُصنع منتجات روساس للألبان في مصنع صغير كائن في قرية أنيليو الشمالية الغربية التي يعني اسمها "المكان الذي لا شمس فيه" إشارةً إلى موقعها المستكنّ في ظلال القمم المحيطة بها وأشجار الصنوبر السوداء المتعالية فيها، أسفل منتجع ميتسوفو للتزلّج. (تمتلك المنطقة تقاليد خاصّة بها لصناعة الألبان، وتمتدّ من جبال بيندوس إلى الهياكل الصخرية المبهرة التي يعلوها الدير والمعروفة باسم ميتيورا، حيث يصنع الرهبان أجبان ميتسوفوني وميتسوفيلا الشهيرة).

Nikos Tsimpos with his sons George and John

نيكوس تسيمبوس مع ولديه جورج وجون

Beechwood drying in the sun

تجفيف خشب الزان في الشمس

منذ أكثر من 100 عام، قامت عائلة تسيمبوس بقطع أشجار الزان واستخراج الخشب منها وإعادة زراعتها في تلك المنطقة التي تزخر بالطرقات الضيقة المتعرّجة عبر الغابات الكثيفة. وتجدر الإشارة إلى أنّ خشب الزان يُعدّ مثالياً لتعتيق الجبنة إذ يعزّز نكهتها بدون أن يطغى على نكهتها الأصلية. توضع جبنة الفيتا في البراميل التي تصنعها عائلة تسيمبوس لمدّة ثلاثة أشهر كحدٍّ أدنى، وتُدحرج (أو "تؤخذ في نزهة") ثلاث مرات على الأقل خلال تلك الفترة لتتوزّع جيداً قبل كسر الخشب بمطرقة.

ويقول ألكسندروس إنّ ما يخرج من هذه البراميل يتحلّى بخصائص مميزة مستمدّة من الأخشاب المحيطة به ومن غياب المحلول الملحي.كما يضيف قائلاً: "عندما ننتج الجبنة في علب معدنية أو حاويات مصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ، يشكّل المحلول الملحي ما بين 10% إلى 20% من حجم المحتوى. أمّا في البرميل، فتتواجد الجبنة وحدها وتلامس الخشب، حيث تمتصّ منه أقصى قدر من النكهة للحصول على جبنة بنكهة أكثر حدة".

The Meteora is a rock formation in Thessaly, Greece, that hosts one of the largest complexes of monasteries

ميتيورا عبارة عن هيكل صخري في ثيساليا باليونان، يضم أحد أكبر مجمّعات الأديرة

Vassilis Roussas, vice president at Roussas Diary

فاسيليس روساس، نائب رئيس شركة روساس للألبان

هذا يعني أنّ برميل خشب الزان هو بالنسبة إلى ألكسندروس "البيئة الطبيعية لجبنة الفيتا"وأفضل وسيلة للحفاظ على النفحات الزهرية والعشبية الكامنة في تلك البيئة التي يُستقدم منها. تعمل عائلة روساس مع حوالي 700 مزارع يمتلكون قطعاناً متجوّلة. يعيش بعضهم بالقرب من مصنع الألبان، حيث يعمل راعٍ من الجيل الجديد يُدعى ليونيداس كيتسوس على تطوير هذه الثقافة الزراعية لتواكب أسلوب الحياة في القرن الحادي والعشرين، إذ لا يزال يطعِم قطيعه المؤلّف من 1200 رأس من الأغنام براعم الشعير في الشتاء والأعشاب البرية والزهور والأعشاب في الصيف. علاوةً على ذلك، تستقدم العلامة الحليب من المراعي الجبلية الأخرى التي تقع ضمن حدود المنطقة الجغرافية الواسعة حيث تم تصنيف جبنة الفيتا اليونانية بشكل قانوني كمنتج إقليمي يحمل تسمية المنشأ المحمية منذ العام 2002: تراقيا، مقدونيا، ستريا هيلاس، البيلوبونيز وما إلى ذلك.

بفضل هذا الانتشار واسع النطاق، يمكن الآن ممارسة عمليات صناعة الجبنة على مدار العام بالاعتماد على التخثّر المستمر لحليب الأغنام، حيث كانت تلك المادة الخام متوفّرة سابقاً في مواسم معينة فقط. صحيحٌ أنّ قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن جبنة الفيتا محمية المنشأ تسمح بإضافة ما يصل إلى 35% من حليب الماعز إلى المزيج، غير أنّ وصفة روساس ما زالت تحافظ على نسبة منخفضة من حليب الماعز تصل إلى 7% تقريباً ويعود ذلك إلى أسباب متعلّقة بالمذاق.

SpinneysFOOD Feta cheeses
SpinneysFOOD Feta cheeses

يقول ألكسندروس: "قد يكون حليب الماعز حامضاً جداً، وتكفي كمية قليلة منه لجعل الجبنة أكثر اعتدالاً واستهلاكاً في جميع أنحاء العالم". ويعترف بأنّه من أشدّ النقاد للعينات التي يأخذها من جبنة الفيتا التي تحمل اسم عائلته. فهو يشرف على أعمال عصرية عالمية المستوى تتمحور حول سلسلة إنتاج متطورة تشمل وحدات آلية للبسترة مع أحدث تقنيات التعبئة والتغليف المستدامة، وأسطول من الشاحنات المزوّدة بحاويات مبرّدة لنقل حليب الغنم في المرتفعات التي كانت فيما مضى مسكناً لآلهة الإغريق وتكثر فيها الصواعق. وفي المقابل، لا يزال ألكسندروس يبحث عن نكهات وعطور الماضي التي تتطّلب أساليب واقعية وعملية بقدر ما هي شاعرية أو رومانسية.

"اعتاد آباؤنا أن يأخذونا إلى الجبال كل صيف، لمدة شهرين أو أكثر، لنعيش بالقرب من المكان الذي عاش فيه أجدادنا لأجيال طويلة، حيث أنتجوا طعامهم بأدوات ومكوّنات بسيطة جداً. وكنا نتناول المأكولات نفسها التي تناولوها، ألا وهي الفطائر المصنوعة من دقيق القمح، والجبنة المصنوعة من حليب الغنم، والخضار المزروعة حول المنحدرات. وتعود إلى ذهني كل هذه الذكريات حين أعمل في مصنع الألبان".