مع كل الاحترام الواجب للدول المصنّعة للأجبان، يبدو من المنطقي نسبياً اعتبار الأجبان الفرنسية أفضل أصناف الأجبان في العالم، غير أنّ الأجبان الفرنسية عالمٌ متكامل بحدّ ذاته.

ترتبط كل منطقة لإنتاج الأجبان بخصائص "الأرض" حيث تتم صناعتها، وتكون كمثلث للعوامل الأساسية يتألف من البيئة، والثروة الحيوانية، والممارسات البشرية. يُعتبر المناخ والتربة والعشب وتربية الماشية والمُزارع عوامل تتفاعل مع بعضها البعض لتحدّد جودة الحليب المنتَج. ويقول صانع الأجبان المتمرّس فرانسوا روبان في هذا السياق: "لا يمكنك تحويل الحليب الفاسد إلى جبنة جيدة، مثلما لا يمكنك تحويل سيارة فرنسية ضعيفة إلى سيارة فيراري".

يضيف قائلاً: "صحيحٌ أنّ عملية صنع الجبنة "سهلة" بحدّ ذاتها من الناحية النظرية، إلّا أنّ إتقانها قد يستغرق عمراً كاملاً، أو جيلاً واحداً على الأقل لإنتاج جبنة فرنسية جيدة ومعتّقة.

ويتمّ الحفاظ خلالها على أعلى معايير النظام الأوروبي لمنح شهادات تسمية المنشأ المحمية، الذي يحمي التقاليد الحرفية المحلية، بدلاً من التمسّك بالأجبان الفرنسية قولاً وليس فعلاً. وليس من معايير أعلى وتقاليد أقوى من تلك الموجودة في منطقتَي فرانش كونته وأوفيرن رون ألب. نال فرانسوا جائزة أفضل عامل في فرنسا في إطار المسابقة المرموقة للحرفيين التي تُقام في البلاد، وكان دليلنا إلى مصانع الأجبان تلك كما عرّفنا على ثلاثة أصناف مميزة من الجبنة...

Reblochon

جبنة روبلوشون

Pierre Gay in his cheese cave

بيير غاي في كهف الجبنة الخاص به

جبنة كومتيه

أمر نابليون ببناء حصن فور دي روس في أعالي جبال جورا في فرنسا، وهو معقل ضخم لآلاف الجنود والخيول، ليستخدم فيما بعد لإنتاج الجبنة ويغدو ما يسميه فرانسوا "كاتدرائية الجبنة". كان جان تشارلز أرنو، رئيس مصنع جورافلور للألبان، متمركزاً هنا في إطار خدمته العسكرية في التسعينات، وقد أدرك الإمكانات الكامنة في صناعة الجبنة في الأقبية والأنفاق الحجرية المظلمة والرطبة التي يضمّها المبنى. ولا يمكن أن ننسى الغرف الملطّخة بالبارود حيث تحافظ مستويات الحرارة والرطوبة وثنائي أكسيد الكربون على ثباتها كما لو كانت في كهف، وهذا ما يجعلها البيئة المثالية لتخزين الكنوز التي ينتجها الحصن، والمتمثلة في ما يقارب 200 ألف قالب من جبنة كومتيه.

يساوي حجم كلّ قالب جبنة حجم إطار السيارة تقريباً، وتكسوه قشرة لامعة فتبدو وكأنها كنزٌ ذهبي مدفون تحت التأثيرات الضوئية المبتكرة التي يقدّمها أرنو. وبين أحضان غرفة التذوّق التي تقع تحت الأرض، تكتسب الأجبان المعتّقة على أنواعها مختلف النكهات والقوامات، من الأجبان الجديدة التي تتمتّع بنكهة الفواكه والمكسّرات، وصولاً إلى تلك المعتّقة لمدة 36 شهراً والتي تكتسب نكهة حلوة وحارة كثيفة فيما تتشكّل عليها بلورات مقرمشة ولامعة إثر تعتيق الأحماض الأمينية البيضاء الموجودة فيها.

والجدير بالذكر أنّ فرانسوا يعتبر كومتيه أفضل جبنة محمية المنشأ في فرنسا بسبب القواعد الصارمة المطبقة على كل مرحلة من مراحل الإنتاج، بدءاً من تحديد سلالات معينة من الأبقار إلى استخدام الأحواض النحاسية فقط، ويقول في هذا السياق: "تخالجني عواطف كثيرة في هذا الصدد". وفي منزله، يحبّ مزج جبنة كومتيه مع الثوم الأسود للتمتّع بنكهة غنية خارجة عن المألوف.

Making Beaufort is still very much a hands-on process

لا تزال صناعة جبنة بوفور يدويّة إلى حدٍّ كبير

Wheels and wheels of Comté inside Fort des Rousses

قوالب وقوالب من جبنة كومتيه داخل حصن فور دي روس

جبنة روبلوشون

تتربّع في المراعي الخضراء الغنّاء بمنطقة لو بوشيه-مون-شارفان مزرعةٌ نموذجية أوليّة تنتج فيها ماتيلد وفابريس روفي دفعات صغيرة من جبنة روبلوشون الكلاسيكية والعضوية الأصيلة. بالرغم من صغر سنّهما، اكتسب الزوجان مهارة الخبراء في هذا المجال، حيث ينتجان كل قالب جبنة من الحليب المستقدم من قطيع مختلط يضمّ 25 بقرة من أبقار مونبيليارد وتارين وأبوندانس (التي تبدو العلامات حول عيونها كنظارات شمسية بنية أنيقة)، وتُحلب هذه الأبقار مرتين يومياً، ما يُعتبر وتيرة مكثّفة ويتطلّب جهداً كبيراً.

تعود عملية الإنتاج هذه إلى أسطورة محلية يعود تاريخها إلى العصور الوسطى حين فُرض على المزارعين تسديد ما عليهم من ضرائب بمنتجات الألبان، غير أنّهم انتظروا رحيل المفتشين ليحلبوا الأبقار مرّة ثانية ويحصلوا على حليب يحتوي على أعلى نسبة من الدسم. وكانت النتيجة جبنة كريمية غالباً ما تُقدّم ذائبةً فوق البطاطا والبصل واللحم المقدّد في طبق تارتيفليت الجبلي الشهي. تنتج عائلة روفي جبنة روبلوشون ولكن على نطاق صغير نظراً لتشغيل عملياتها في مزرعة بيزيير، وتمتاز منتجاتها بجودة عالية حيث تعبق بنفحات فاكهية ناعمة وتترك نكهة مكسّرات ولا أشهى.

ويقول فرانسوا في هذا الصدد: "هذا العمل يتطلب الاحترام".

Aged Comté

جبنة كومتيه معتّقة

Reblochon in the making.

جبنة روبلوشون أثناء صناعتها

جبنة بوفور

تُعتبر بوفور جبنة مضغوطة شهيرة تُصنع في إقليم سافوا وتنفرد بشكلها المميز، بالإضافة إلى رائحتها ونكهتها. يوضح فرانسوا أنّ الجبنة كانت تُصنع في أعالي الجبال خلال فصل الصيف، وتُربط بعدها على ظهور الحمير لنقلها إلى الأقبية في الوادي، كما صُمّم للحمير كعبٌ مقعّر لضمان ثباتها التام أثناء النقل. أمّا اليوم، فتقترن جبنة بوفور المصنوعة في شاليهات تتربع في جبال الألب بمعايير تسمية المنشأ المحمية، ما يعني أنّه يتمّ إنتاج صنف معين من الجبنة مرّتين يومياً من حليب قطيع واحد في منطقة تقع على ارتفاع لا يقل عن 1500 متر.

يقول فرانسوا في هذا الإطار: "تتمتّع الأبقار بعشبٍ رائعٍ في أعلى الجبل، كما تأكل الأزهار التي تمنح الجبنة لونها المميز الذي غالباً ما يميل إلى الأصفر". يمكن أيضاً إنتاج جبنة بوفور الشتوية، غير أنّ صنعها يصبح أكثر صعوبة في الأحوال الجوية الثلجية، وتكون الجبنة أخفّ وزناً وأكثر اعتدالاً. ويتطلّب الإنتاج يوم عملٍ طويلٍ بالنسبة إلى صانع الجبنة، بدءاً من أول عملية حلب في الساعة 4 فجراً وصولاً إلى صناعة آخر قالب جبنة وتغيير القماش عنه حوالي الساعة 10 مساءً.

ويقول فرانسوا: "يا له من عملٍ رائع".

François Robin
فرانسوا روبان

متاجر أجبان لا بدّ من معرفتها

تكثر متاجر الأجبان في فرنسا، ونذكر منها متجر غاي للأجبان الواقع في مدينة أنسي القديمة التي تتربّع على ضفاف البحيرة وتضمّ قصراً يعود إلى القرون الوسطى ومنازل نابضة بالألوان وكنائس ومتاجر للتحف ومقاهي تصطفّ على جانبي شوارعها المرصوفة بالحصى. يمتلك بيير غاي متجراً للأجبان ويُعرف بحبّه للجبنة وبشخصيته المميزة، فلا بدّ لكلّ عشاق الجبنة أن يقابلوه. وعلى غرار فرانسوا، يحمل غاي لقب أفضل عامل في فرنسا، ويُعتبر تفانيه لحرفته أمراً ملفتاً.

أكثر ما يميز متجره هو القبو المكرّس لتعتيق الجبنة والمخفي تحت أرضية زجاجية فيه! وحين لا يكون بيير موجوداً، تتواجد زوجته صوفي أو تلميذه بول لمساعدة العملاء في الاختيار بين مجموعة متنوعة من الأجبان وتثقيفهم حولها.

في عاصمة الطعام ليون، تعتبر شارلوت بوتي جان الحجر الأساس لمقهى ومتجر الأجبان الرائع سان جان. يقع هذا المتجر في زاوية صغيرة من الشارع ويُعتبر ملاذاً لعشّاق الجبنة، فسواء كنتم تودّون شراء جبنة جاهزة أم الاستمتاع بطبق لذيذ على ترّاسه، ستجدون مطلبكم فيه. ولا يقتصر هذا المتجر على بيع الجبنة فحسب، إنما يوفّر تجارب تفاعلية أيضاً مثل الصفوف الاحترافية لتعلّم صناعة الجبنة.